القميص الأحمر
لإبن عبد ربه
الكتاب : مختارات من أدب العرب الجزء الأول
لأبي الحسن علي الندوي
بينما المنصور قي الطواف بالبيت ليلا إذ سمع قائلا يقول : اللهم! إني أشكو
إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. فجزع
المنصور فجلس بناحية من المسجد وأرسل إلى الرجل فصلى ركعتين واستلم الركن، وأقبل
مع الرسول فسلم عليه بالخلافة .فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الآرض؟
وماالذي يحول يين الحق وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني٠ فقالت
إن أمّنتني يا أمير المؤمنين! أعلمتك بالأمور من أصولها وإلا
احتجزت منك واقتصررن على نفسي فلي فيها شاغل. قال : فأنت آمن على نفسك فقل. فقالت
: ياأمير المؤمنين! إن الذي دخله الطمع ، وحال بينه وبين ما ظهر في الأرض من الفساد
والبغي لأنت. فقال : فكيف فلك؟ ويحك يدخلني الطمع والصفر والبيضاء في قبضتي والحلو
والحامض عندي؟
قال : وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك ، إن الله استرعاك أمر عباده
واموالهم فأغفلت أمورهم ، واهتممت بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجصّ
والاجرّ وأبوابا من الحديد ، وحرّاسا معهم السلاح ، ثم سجنت نفسك عنهم فيها ، وبعثت
عمّالك في جبايات الأموال وجمعها ، وأمرت أن لا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان
نفرا سمّيتهم ، ولم تأمر بإيصال المظلوم ، ولا الملهوف ولا الجائع العاري إليك ،
ولا أحد إلا وله في هذا المال حق-
فلما رآك هؤلاء النفر الذي استخلصتهم لنفسك ، وآثرتهم على رعيك ، وأمرت
أن لا يحجبوا دونك تجبي الأموال وتجمعها ، قالوا هذا قد خان الله فما لنا لا تخونه
٠ فائتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا. ولا يخرج لك
عامل إلا خوّنوه عندك ونفوه حتى تسقط منزلته عندك-
فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أ عظمهم الناس ، وهابوهم وصانعوهم ، فكان أول
من صانعهم عمّالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيّك. ثم فعل ذلك ذووالمقدرة والثروة
من رعيك لينالوا ظلم من دونهم. فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وبغبا وفسادا. وصار
هؤلاء القوم شركاء في سلطانك وأنت غافل. فإن جاء متظلّم حيل بينك وبينه فإن أراد
رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم ٠
فان جاء ذلك المتظلّم فبلغ بطانتك خبره ، سألوا صاحب المظالم أن لا
يرفع مظلمته إليك ، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ، ويلوذ به ، ويشكو ويستغيث ، وهو
يدفعه ٠ فإذا أجهد وأخرج ثم ظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا بكون نكالا لغيره
وأنت تنظر فما تنكر ، فما بقاء الإسلام؟
وقد كنت يا أمير المؤمنين! أسافر إلى الصين فقدمتها مرّة وقد أصيب ملكهم
يسمعه فبكى يوما بكاء شديدا فحثه جلساؤه على الصبر فقال ؛ أما إني لست أبكي للبليّة
النازلة ولكني أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته ، ثم قال : أما إذا قد ذهب
سمعي فإن بصري لم يذهب. نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلا متظلم ، ثم كان
يركب الفيل طرفي النهار وينظر هل يرى مظلوما.
فهذا يا أمير المؤمنين! مشرك بالله بلغت رأفته بالمشركين هذا المبلغ وأنت
مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك. فإن كنت إنما تجمع
المال لولدك فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال.
وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة
للناس له ولست الذي تعطي بل الله تعالى يعطي من يشاء ما يشاء ٠
فإن قلت : إنما تجمع المال لشديد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أميّة
ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب وما أعدّوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله
بهم ما أراد .
وإن قلت : إنما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها
فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه : يا أمير
المؤمنين! هل يعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ فقال المنصور: لافقال : فكيف تصع بالملك
الذي خوّلك ملك الدنيا وهولايعاقب من عصاه بالقتل ولكن بالخلود في العذاب الأليم.
قد رأى ماعقد عليه قلبك ، وعملته جوارحك ، ونظر إليه بصرك ، واجترحته يداك ، ومشت
إليه رجلاك ، هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ، ودعا
إلى الحساب؟
قال : فبكى المنصور ثم قال : ليتني لم أخلق ويحك كيف أحتال لنفسي؟ فقال
: يا أمير المؤمنين! إن للناسر أعلاما يفزعون
إليهم في دينهم ويرضون بهم في دنياهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك . وشاورهم لي أمرك يسدّدوك
قال : قد بعثت إليهم فهربوا مني. قال : خافوك أن تحملهم على طريقتك ولكن افتح بابك ، وسهل حجابك ، وانصر المظلوم ،
واقمع الظالم ، وخذ الفيء والصدقات على حلّها٠ واقسمها بالحق والعدل على اهلها
وأنا ضامن عنهم أن ياتوك ويساعدوك على صلاح الأمة وجاء المؤذّنون فآذنوه بالصلاة
فصلى وعاد إلى مجلسه وطلب الرجل فلم يوجد-
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء