كيف هاجر النبي


الموضوع: كيف هاجر النبي
الكتاب : مختارات من أدب العرب الجزء الأول

لأبي الحسن علي الندوي



إن عاثشة زوج النبي قالت : لم أعقل أبويّ قطّ إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشية . فلما ابتلي المسلمون خرج أبوبكر مهاجرا نحو أرض الحبشة ، حتى إذا بلغ يرك الغماد لقيه ابن الدغنّة - وهو سيد القارة : فقال : أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبوبكر: أخرجني قومي ، قأريد أن أسيح في الأرض ، وأعبد ربى. قال ابن الدغنّة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك تكسب المعدم : وتصل اللرحم ، وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب  الحق ، فأنا لك جار ، ارجع واعبد ربّك ببلدك ، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة ، قطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش ، فقال لهم : إن أبا بكرلا يخرج مثله ولايخرج ، أتخرجون رجلا يكسب المعدم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذّب قريش  بجوار ابن الدغنّة ، وقالوا لابن الدغنّة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره قليصلّ فيها وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به ، فإنا تخشى أن يفتن نساءنا وأيناءنا ٠ قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر ، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربّة في داره ، ولا يستعلن بصلاته ، ولا يقرأ في غير داره ٠
ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره ، وكان يصلّي فيه ويقرأ القرآن فيتقذّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون. منه وينظرون إليه . وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرىء القرآن ، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ، فارسلوا إلى ابن  الدغنّة ، فقدم عليهم فقالوا إنا كنا أجريا أبا بكر يجوارك على أن يعبد ربه . قى داره ، فقد جاوز ذلك ، فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة وألقراءة فيه ، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وابناءنا فانهه ، فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فسله أن يردّ إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان-
قالت عائشة : فأتى ابن الدغنّة إلى أبي بكر فقالت قد علمت الذي عاقدث لك عليه ، قإما أن تقتصر على ذلك ، وإما أن ترجع إليّ ذمتي.فاني لا أحبّ أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك وارضى بجوار الله ٠

والنبي يومئذ بمكة فقال النبي للمسلمين إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرّتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهّز أبوبكرقبل المدينة .
فقال له رسول الله : على رسلك  فإني أرجو أن يؤذن لي ٠ فقال أبو يكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال نعم فحبس أبوبكر نفسه على  رسول الله ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط أربعة أشهر.
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة : فبينما نحن يوما جلوس قي بيت ابي بكر قي نحر الظهيرة- قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله  متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبوبكر: فداء أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، قالت : فجاء رسول الله ، فاستأذن فأذن له ، فدخل فقال النبي لأبي بكر أخرج من عندك ، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ، قال : فإني قد أذن لي في الخروج ، فقال أبوبكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله! قال رسول الله : نعما! قال أبوبكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين قال رسول الله : بالثمن٠

قالت عاثشة : فجهزنا أحثّ الجهاز ، وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها ، فربطت به على فم الجراب فبذلك سمّيت ذات النطاق ، قالت : ثم لحق رسول الله وأبوبكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن ، قيدّلج من عندهما بسحر ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه ، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختط الظلام ، فيرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ، قيبيتان في رسل ، وهو لبن منحتهما ورضينهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلسس ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث-

واستأجر رسول الله فهد وأبوبكر رجلا من بني الدئل. وهو من بني عبد بن عدي - هاديا خرّيتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي ، وهوعلى دين كفار قريش ، قأمناه فدفعا أليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال يراحلتيهما صبح ثلاث ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل ٠

قال ابن شهاب وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريثس يجعلون قي رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره ، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقالا : يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا أو أصحابه ، قال سراقة : فعرفت أنهم هم ، فقلت له : إنهم ليسوا بهم ، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ، ثم لبثت في المجلس ساعة ثم للموت فدخلت فأمرت جاريتى أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ ، واخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجّه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركيتها فرفعتها تقرّب بي حتى دنوت منهم ، قعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت قأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرّهم أم لا؟ فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرّب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبوبكريكثرالالتفات ساخت يدا فرسي في الآرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها ، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان ، فا ستقسمت بالأزلام  فخرج الذي أكره ، فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جنتهم ، ووقع في نفسي - حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم - أن سيظهر أمر رسول الله  فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية ، وأخبرتهم أخبار ما يريد للناس بهم ، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزأني ولم يسألاني إلا أن قال : أخف عنّا فسألته أن يكتب لي كتاب امن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أدم ، ثم مضى رسول الله .
قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجّارا قافلين من الشام ، فكسا الزبير رسول الله وأبابكر ثياب بياض ، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرّة فينتظرونه حتى يردّهم حرّ الظهيرة ، فانقلبوا يوما بعدما اطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفي رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يامعاشرالعرب! هذا جدّكم الذي تنتظرون ، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقّوا رسول الله  بظهر الحره فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول ، فقام أبوبكر للناس ، وجلس رسول الله صامتا ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله يحيّي أبابكرحتى أصابت الشمس رسول الله فأقبل أبو بكر حتى ظلّل عليه برادئه فعرف الناس رسول الله عند ذلك ، فلبث رسول الله في بني عمرو بن عوف بضغ عشرة ليلة وأسّس المسجد الذي أسّس على التقوى وصلى فيه رسول الله. ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول بالمدينة وهو يصلى فيه يومئذ رجال من المسلمين ، وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فقال رسول الله حين بركت به راحلته هذا - إن شاء الله المنزل .
ثم دعا رسول الله الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا ققالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ، ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله ينقل معهم اللّبن في بنيانه ويقول - وهوينقل اللين –
هذا الحمال لاحمال خيبر       هلا أبر ربنا وأطهر ،
ويقول :
اللهم إن الأجر أجر الآخرة        فارحم الأنصار والمهاجرين
فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسمّ لي .
قال ابن شهاب ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله تمل ببيت شعرتام غير هذه الأبيات-


شكرا لتعليقك