الكتاب : مختارات من أدب العرب الجزء الأول
قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير
أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها إنما خرج رسول الله يريد عير
قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله ليلة
العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أنّ لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في
الناس منها .
كان من خبري : أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر حين تخلّفت عنه في تلك
الغزاة ، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما لي تلك الغزاة ولم يكن
رسول الله يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حرّ
شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوا كثيرا فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة
غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله كثير ،ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - قال كعب : فما رجل يريد أن يتعيّب
إلا ظن أنه سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله ، وغزا رسول الله تلك الغزوة حين
طابت الثمار والظلال . وتجهّز رسول الله والمسلمون معه ، قطفقت أغدو لكي آتجهّز معهم
فإرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي وأنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد
بالناس الجد ، فأصبح رسول الله والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيا ، فقلت أتجهّز
بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم٠ فغدوت بعدأن فصلوا لأتجهّز ، فرجعت ولم أقض شيئا .
ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل بي حتى أسرعوا ، وتفارط الغزو وهممت أن
أرتحل فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم يقدّر لي ذلك فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول
الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق أو رجلا ممن عذر
الله من الضعفاء ٠
ولم يذكرني رسول الله حتى بلغ تبوكا فقال - وهو جالس في القوم بتبوك -
ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ! حبسه براده ونظره في عطفيه،
فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا٠ فسكت
رسول .
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أنه توجّه قافلا ، حضرني همي ، وطفقت
أتذكر الكذب ، وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من اهلي ٠
فلما قيل : إن رسول الله قد أظلّ قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن
أخرخ منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمت صدقه ، وأصرخ رسول الله قادما ، وكان إذا قدم من
سفر بدأ بالمسجد قيركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلّفون
فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول الله
علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله ، فجئته فلما سلمت عليه تبسّم
تبسم المغضب ثم قال : تعال، قجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : ما خلّفك؟ ألم
تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى أني - والله - لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت
أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث
كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه إني
لأرجو فيه عفوالله.
لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّقت
عنك ، فقال رسول الله : أماهذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت وسار رجال من
بني سلمة فاتبعوني ، فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد
عجزت أن لا نكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر إليه المخلّفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول
الله لك ٠ فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع قأكذّب نفسي ، ثم قلت : لهم
هل لقي هذا معي أحد قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك ،
فقلت : من هما؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أميّة الواقفي٠ فذكروا لي
رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة ، قمضيت حين ذكروها لي ، ونهى رسول الله
المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا
حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما
صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم فكنت
أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله فأسلّم
عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فاقول في نفسي : هل حرك شفتيه بردّ السلام عليّ أم
لا؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ وإذا التفت
نحوه أعرض عني حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي
قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلّمت عليه ، فوالله ما رد عليّ السلام فقلت :
يا أبا قتادة ! أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت فعدت له فنشدته فسكت
فعدت له فنشدته ققال: الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار. قال :
فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه
بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن ما لك ؟ فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى إذا جاءني
دفع إليّ كتابا من ملك غسّان فإذا فيه :
أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا
مضيعة فالحق بنا نواسك .
فقلت لما قرأتها : وهذا أيضأ من البلاء فتيممت بها التنّور فسجرته بها
، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله يأتيني فقال : إن رسول الله
يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها ولا تقربها ،
وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في
هذا الآمر. قال كعب : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله فقالت : يا رسول الله إن
هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربك قالت
إنه - والله - ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى
يومه هذا. فقال لي بعض اهلي : لو استأذنت رسول الله في امرأتك كما أذن لامرأة هلال
بن أمية أن تخدمه ، فقلت والله لاأستأذن فيها رسول الله ومايدريني ما يقول رسول الله
إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب .
فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله
عن كلامنا ، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما
رحبت سمعت صوت صارخ أوفي على جبل سلع بأعلى صوته :
يا كعب بن مالك ! أبشر. قال : فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج ، وآذن
رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر ، فذهب الناس يبشّرونّا وذهب قبل
صاحبيّ مبشرون، وركض إليّ رجل فرسا وسعى ساع من أسلم قأوفى على الجبل وكان الضوت٠
أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما بيشراه
والله ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعرت ثوبين فلبستهما .
وانطلقت إلى رسول الله ، قيتلقّاني الناس فوجأ فوجأ يهنئوني بالتوبة
يقولون : لتهنك توبة الله عليك . قال كعب : حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله جالس
حوله الناس ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني٠ والله ما قام
إليّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة٠
قال كعب : فلما سلّمت على رسول الله قال رسول الله وهو يبرق وجهه من
السرور : أبشر بخبر يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ٠
قال : قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال : لا بل من عند
الله .
وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك
منه . فلما حلست بين يديه قلت : يا رسول الله ! إن من توبتى أن انخلع من مالي صدقة
إلى الله وإلى رسول الله ٠ قال رسول الله أمسك عليك
بعض مالك فهوخيرلك . قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر فقلت : يا رسول الله ! إن الله
إنما نجّانى بالصدق وإن من توبتى أن لا أحدّث إلا صدقا ما بقيت . فوالله ما أعلم أحدا
من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله ثلاثي إلى يومي هذا
أحسن مما أبلاني٠ وما تعمدت منذ ذكرت ذلك
لرسول الله إلى يومي هذا كذبا وأني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت.
وأنزل الله على رسول الله : (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين ...)
إلى قوله : (... وكونوا مع الصادقين)(التوبة: 117-119). فوالله ما أنعم الله عليّ
من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله أن لا أكون
كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما
قال لأحد فقال الله تبارك وتعالى : (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم) إلى قوله
: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) (التوبة: 95-96)-
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء