تاريخ الأدب العربي
لأحمد حسن الزيات
النثر
النثرأسبق أنواع الكلام في الوجود لقرب تناوله ، وعدم تقيده ، وضرورة استعماله
٠ وهو نوعان : مسجّع إن التزم في كل فقرتين أو أكثر قافية ، ومرسل إن كان غير ذلك
٠ وقد كان العرب ينطقون به معربا غيرملحون لقوة السليقة ، وفعل الوراثة ، وقلة
الاختلاط بالأعاجم ٠ اللهم إلا هيئات المنطق فقد اختلفت لأسباب طبيعية في الترقيق
والتفخيم والإبدال والإمالة ٠ ولم يعن الرواة من منثورهم على كثرته إلا بما علق
بالنفاسة وبلاغته وايحازه ، كالأمثال والحكم والوصايا والخطب والوصف والأقاصيص.
فالمثل جملة مقتطعة من القول أو مرسلة بذاتها تنقل عمن وردت فيه إلى مشابهه
بدون تغيير . وهذا النوع خاص بالعرب لانتزاعه من حياتهم الاجتماعية وحوادثهم
الفردية ، كقولهم : وافق شنّ طبقة ٠ ولأمر ما جدع قصير أنفه ٠ ويداك أو كتا وفوك
نفخ ٠ وقد تعاقب العلماء على جمعها وشرحها . وأشهر هؤلاء الميدانى المتوفى سنة 518
ه ، فقد جمع كتابه : (مجمع الأمثال) من نحوخمسين كتابا ، وكاد يستوعب فيه المأثور
من القديم والمشهور من الحديث ورتبه على حروف المعجم .
والحكمة قول رائع موافق للحق سالم من الحشو . وهي ثمرة الحنكة ونتيجة الخبرة
وخلاصة ا لتجربة ، كقولهم : الخطأ زاد العجول . من سلك ا لجدد أمن العثار ٠ عيّ صامت
خير من عي ناطق ٠
والخطبة والوطنية كلتاهما يزاد بها الترغيب فيما ينفع وما يضر ،إلا أن
الأولى تكون على ملأ من الناس في الجامع والمواسم . والأخرى تكون لقوم معينين في
زمن معين ، كوصية الرجل لأهله عند النقلة أو الموت ٠
ميزات النثر الجاهلي
يمتاز النثر في الجاهلية بجريانه مع الطبع ، فليس فيه تكلف ولا زخرف ولا
غلو . يسير مع أخلاق البدوي وبيئته ، فهو قوي اللقظ ، متين التركيب ، قصير الجملة
، موجز الأسلوب ، قريب الإشارة ، قليل الاستعارة ، سطحيّ الفكرة .وربما تساوقت
فيه الحكم واطّردت الأمثال من غير مناسبة قوية ولاصلة متينة ٠
الخطابة
الخطابة كالشعر لحمتها الخيال وسداها البلاغة ٠ ومظهر من مظاهر الحرية
والفروسية ، وسبيل من سبل التأثير والإقناع . تحتاج إلى ذلاقة اللسان ، ونصاعة البيان
، وأناقة اللهجة ، وطلاقة البديهة ٠ والعرب ذوو نفوس حساسة واباء ، وأولو غيرة ونجدة
. فكان لهم فيها القدم السابقة والقدح المعلّى ٠ وقد دعاهم إليها ما دعا الأمّم البدوية
من الفخر بحسبها ونجارها ، والذّود عن شرفها وذمارها، وإصلاح ذات البين بين الحيين
، والسفارة بين رءوس القبائل وأقيالهم ،أوبين الملوك وعمالهم . وكانوا يدربون فتيانهم
عليها منذ الحداثة ، ويحرصون على أن يكون لكل قبيلة خطيب يشد أزرها ، وشاعر يرفع
ذكرها . وريما اجتمع الصفتان في واحد .
أما أسلوبها فكان رائع اللفظ ، خلاب العبارة ، واضع المنهج ، قصير السجع
،كثير الأمثال . وهم إلى قصارها أميل لتكون أعلق بالصدور وأذيع ٠ ومن عاداتهم فيها
الوقوف على نشو من الأرض أو القيام على ظهر دابة ، ورفع اليد ووضعها ، والاستعانة
على العبارة بالإشارة ، واتخاذ المحاصر بأيديهم ، والاعتماد على الصفاح والرماح أو
الإشارة بها .
وكانوا يحبون من الخطيب أن يكون حسن الشارة ، جهير الصوت ، سليم المنطق
، ثبت الجنان ، وأشهر خطبائهم في هذا العصرقسّ بن ساعدة الايادى ، وعمرو بن كلثوم
التغلبي ، وأكثم بن صيفي التميمي ، والحارث بن عياد البكرى، وقيس بن زهير العبسى ،
وعمرو بن معديكرب الزبيدى –
نماذج من النثر الجاهلي
من الأمثال
قالت العرب في أمثالها:
(إذا سلمت الجلة فالنيب هدر) أي إذا سلم ما ينتفع به هان مالا ينتفع
به .
(إن كنت ريحا فقد لا قيت اعصارا) يضرب للمدل بنفسه إذا منى بمن هو
أدهى منه.
(إنك لاتجنى من الشوك العنب) أى لاتجد عند ذى المنبت السوء جيلا ٠
(ذكرنى فولي حمارى أهلي) أصله أن رجلا خرج يطلب
حمارين ضللا له ،
فرأى امرأة فأعجبته، فنسى الحمارين فلما أسفرت ،
عن وجهها رأى فمها قبيحا فقال هذا المثل ٠
(تجشّأ لقمان من غيرشبع) يضرب لمن يدّعى ما ليس يملك ٠
(رمتنى بدائها وانسلّت ) يضرب لمن يعير الآخر بما
يعير هو به
(رب كلمة تقول لصاحبها دعنى) يضرب في الهنى عن
الإكثارمخافة الإهجار
(أسر حسوا في ارتغاء) يضرب لمن يريك أنه يعينك
وهو يجرالنفع
إلى نفسه٠ وأصله أن الرجل يؤتى باللبن فيظهر
أنه يريد الرغوة خاصة فيشر بها وهو في ذلك ينال من اللبن.
(أوسعتهم سبّا وأودوا باللإبل) أصله أن رجلا أغير
على إبله فأخذت ، فلما
توارى المغيرون بها صعد أكمة وجعل يسبهم، ثم
رجع إلى قومه فسألوه عن إبله ، فقال هذا المثل ٠
(أحشفا وسوء كيلة؟..) يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين
٠
(قد يحمل العيرمن ذعرعلى الأسد) يضرب لمن يأخذه
الدهش والروع فحمله على
ما ليس من طبعه .
(قبل الرمى يراش السهم..) يضرب للاستعداد للأمر
قبل نزوله .
من الحكم
ومن حكم العرب قولهم : مصارع الرجال تحت بروق الطمع كلم اللسان أنكى
من كلم السنان . رب عجلة تهب ريثا٠ العتاب قبل العقاب . التوبة تغسل الحوبة . من
سلك الجدد أمن العثار . أول الحزم المشورة . رب قول أنقذ من صول. أنجز حرما وعد ٠ أترك
الشر يتركك . من ضاق صدره انسع لسانه. يدك منك وإن كانت شلاء . رب ملوم
لاذنب له ٠ من مأمنه يؤتى الحذر.
الخطب
قال هانىء بن قبيصة الشيباني لقومه يحرضهم ، وهو يدلك على مذهب الجاهليين
في النثر من تفكك المعاني وضعف ارتباط الجمل :
يامعشربكر ! هالك معذور ، خير من ناج فرور . إن الحذر لا ينجى من القدر
، وإن الصبر من أسباب الظفر ٠ المنية ولا الدنية . استقبال الموت خير من استدباره .
الطعن في ثغر النحور ، أكرم منه في الأعجاز والظهور ، ياآل بكر ، قاتلوا فما من
المنايا بد ! .
وخطب عبدالمطلب عند سيف بن ذي يزن بعد انتصاره على الحبشة قال : وإن الله
تعالى أيها الملك أحللك محلا رفيعا ، باذخا شامخا ، وأنبتك منبتا طابت أرومته ،
وعزت جرثومته ، ونبل أصله ، وبسق فرعه ، في أكرم معدن وأطيب موطن ٠ فأنت أبيت اللعن
رأس العرب وربيعها الذي به تخصب ، وملكها الذي به تنقاد ، وعمودها الذي عليه
العماد ، ومعقلها الذي إليه تلجأ العباد . سلفك خير سلف ، وأنت لنا بعده خيرخلف ،
ولن يهلك من أنت خلفه ، ولن يخمل من أنت سلفه ٠ نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمته
وسدنة بيته ، أشخصنا إليك الذي أبهجنا بكشف الكرب الذي فدحنا ، فنحن وفد التهنئة ،
لا وفد المرزئة ،
من الوصايا
أوصى زهير بن جناب الكلبي بنيه قال :
يابني قدكبرت سني ، وبلغت حرصا من دهري ، فأحكمتني التجارب ، والأمور
تجربة واختار. فاحفظوا عني ما أقول وعوه ٠ إياكم والحورعند المصائب، والتواكل عند
النوائب ، فإن ذلك داعية للغم ، وشماتة للعدو ، وسوء ظن بالرب وإياكم أن تكونوا
بالأحداث مغترين ، ولها آمنين ، ومنها ساخرين ، فإنه ما سخر قوم قط إلا ابتلوا ،
ولكن توقعوها ، فإن الإنسان في الدنيا غرض تعاوره الرماة ٠ فمقصردونه ، ومجاوز
لوضعه ، وواقع عن يمينه وشماله ، ثم لابد أن يصيبه ٠
وأوصت أعرابية ابنتها ليلة زفافها ،قالت :
أى بنية ! إن الوصية لو تركت لفضل أدب تركت لذلك منك ٠ ولكنها تذكرة
للغافل ، ومعونة للعاقل ٠ ولوأن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدة حاجنها إليها
، لكنت أغنى الناس.
أى بنية إنك فارقت الجو الذي منه خرجت ، وخلفت العش الذي فيه درجت ،
إلى وكر لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه . فاحملى عنى عشرخصال تكن لك ذخرا : اصحبيه
بالقناعة ، وعاشريه بحسن السمع والطاعة ، وتعهدى موقع عينيه فلا تقع عينه منك على
قبيح ، ثم اعرفى وقت طعامه ، واهدئي عند منامه . فإن حرارة الجوع ملهبة ، وتنغيص
النوم مبغضة ٠ ثم اتقى مع ذلك الفرح أمامه إن كان ترحا ، والاكتئاب عنده إن كان فرحا
، فإن الخصلة الأولى من التقصير ، والثانية من التكدير . وكونى أشد الناس له إعظاما
، يكن أشدهم لك أكراما . واعلمى أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثرى رضاه على
رضاك ، وهواه على هواك ، فيما أحببت أوكرهت . والله يخير لك .
وأوصت أعرابية ولدها قالت :
أى بني ! اياك والنية ، فإنها تزرع الضغينة ، وتفرق بين المحبين . وإياك
والتعرض للعيوب فتتخذ غرضا ٠ وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام ، وقلما اعتورت
السهام غرضا إلا كلمته حتى يهى ما اشتد من قوته ٠ وإياك والجود بدينك والبخل بما
لك . وإذا هززت فاهززكريما يلن لهزتك ، ولاتهزز لئيما فإن الصخرة لا ينفجر ماؤها .
ومثّل لنفسك مثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به ، وما استقبحت من غيرك فاجتنبه ،
فإن المرء لا يرى عيب نفسه . ومن كانت مودّته بشره وخالف ذلك منه فعله ،كان صديقه
منه ، على مثل الريح في تصرفها . والغدر أقبح ما تعامل به الناس بينهم . ومن جمع
الحلم والسخاء فقد أجاد الحلة ريطتها وسربالها٠
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء