تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي

تاريخ الأدب العربي
العصر الجاهلي
الكتاب : تاريخ الأدب العربي
لأحمد حسن الزيات









نشأة اللغة العربية:

اللغة العربية إحدى اللغاث السامية ، انشعبث التى وهن من أرومة واحدة نيتث في أرض واحدة . فلما خرج الساميون من مهدهم لتكاثر عددهم اختلفت لغتهم الأولى بالاشتقاق والاختلاط ، وزاد هذا الاختلافة انقطاع الصلة وتأثير البيئة وتراخى الزمن حتى أصبحت كل لهجة منها لغة مستقلة .
و يقال إن أحبار اليهود هم أول من وفطن إلى ما بين اللغات السامية من علاقة وتشابه في أثناء القرون الوسىيطة ، ولكن علماء المشرقيات من الأوربيين هم  الذين أثبتوا هذه العلاقة بالنصوص حتى جعلوها حقيقة علمية لاإبهام فيها ولاشك.
والعلماء يردون اللغات السامية إلى الآرامية والكنعانية والعربية ،كما يردون اللغات الآرية إلى اللاتينية واليونانية والسنسكريتية . قالآرامية أصل الكلدانية والأشورية والسريانية ، والكنعانية مصدر العبرانية والفينيقية ، والعربية تشمل المضرية الفصحى ولهجات مختلفة تكلمتها قبائل اليمن والحبشة ٠ والراجح في الرأى أن العر بية أقرب المصادر الثلاثة إلى اللغة الأم ، لأنها بانعزالها عن العال سلمت مما أصاب غيرها من التطور والتغير تبعا لأحوال العمران ٠
وليس فى مقدور الباحث اليوم يكشف عن اطوار النشأة الأولى للغة العربية ، لأن التاريخ لم يسارها إلا وهى فى وفرة الشباب والنماء ، والنصوص الحجرية التي أخرجت من بطون الجزيرة لا تزال لندرتها قليلة الغناء ؛ وحدوث هذه الأطؤار التي أتت على اللغة فوحدت لهجاتها وهذبت كلماتها معلوم بأدلة العقل والنقل ، فإن العرب كانوا أميين لاتربطهم تجارة ولا إمارة ولادين ، فكان من الطبيعي أن ينشأ من ذلك ومن اختلاف الوضع والارتجال ، ومن كثيرة الحل والترحال ، وتأثير الخلطة والاعتزال ، اضطراب في اللغة كالترادف ، واختلاف اللهجات في الإبدال والاعلال والبناء والإعراب ، وهنات المنطق كعجعجة قضاعة ، وطمطانية، وفحفحة هذيل، وعنعنة تميم ، وكشكشة أسد ، وقطعة طيئ ، وغير ذلك مما باعد بين الألسنة وأوشك أن يقسم اللغة إلى لغات لايتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها ٠
ولغات العرب على تعددها واختلافها إنما ترجع إلى لغتين أصليتين : لغة الشمال ولغة الجنوب ٠ وبين اللغتين بون بعيد فى الإعراب والضمائر وأحوال الاشتقاق والتصريف ، حتى قال أبوعمرو بن العلاء : ((مالسان حمير بلساننا ولالغتهم بلغتنا)) ٠ على أن اللغتين و إن اختلفتا لم تكن إحداهما بمعزل عن الأخرى ، فإن القحطانية جلوا ءن ديارهم بعد سيل العرم - وقد حدث عام 447م كما حققه غلازر الألماني - وتفرقوا في شمال الجزيرة واستطاعوا بمالهم من قوة، وبما كانوا عليه من رقى ، أن يخضوا العدنانيين لسلطانهم فى العراق والشام ،كما أخضعوهم من قبل لسلطانهم فى اليمن . فكان إذن بين الشعبين اتصال سياسي وتجاري يقرب بين اللغتين في الألفاظ ، ويجانس بين اللهجتين فى المنطق ، دون أن تتغلب إحداها على الأخرى ، لقوة القحطانيين من جهة ، ولاعتصام العدنانيين بالصحراء من جهة أخرى ٠ وتطاول الأمد على هذه الحال حق القرن السادس للميلاد ، فأخذت دولة الحميريين تدول وسلطانهم يزول بتغلب الأحباش على اليمن طورا وتسلط الفرس عليه طورا آخر. وكان العدنانيون حينئذ على نقيض هؤلاء تتهيأ لهم أسباب النهضة ولألفة والوحدة والاستقلال ، بفضل الأسواق والحج ، ومنافستهم للحميريين والفرس ، واختلاطهم بالروم والحبشة من طريق الحرب والتجارة ، ففرضوا الغتهم وأدبهم على حمير الذليلة المغلوبة ، ثم جاء الإسلام فساءد العوامل المتقدمة على محو اللهجات الجنوبية وذهاب القومية اليمنية فاندثرت لغة حمير وآدابهم وأخبارهم حتى اليوم ٠
لم تتغلب لغات الشمال على لغات الجنوب فحسب ، وإنما استطاعت كذلك أن تيرّأ مما جنته عليها الأمية والهمجية والبداوة من اضطراب المنطق واختلاف الدلالة وتعدد الوضع ، فتغلبت منها لغة قريش على سائر اللغات لأسباب دينية واقتصادية واجتماعية أهمها :

الأسواق :
 وكان العرب يقيمونها في أشهر السنة للبياغات والتسوّق وينتقلون من بعضها إل بعض ، فتدعوهم طبيعة الاجتماع إلى القارضة بالقول ، والمفاوضة في الرأي، والمبادهة بالشعر ، والمباهاة بالفصاحة ، و المفاخرة بالمحامد و شرف الأصل فكان من ذلك للعرب معونة ءلى توحيد اللسان والعادة والدين والخلق ، إذ كان الشاعر أو الخطيب إنما يتوخى الألفاظ العامة والأساليب الشائعة قصدا إلى إفهام سامعيه ، وطمعا في تكثيرمشايعيه. والرواة من ورائه يطيرون شعره في القبائل وينشرونه في الأنحاء فتنتشر معه لهجته وطريقته وفكرته ٠
وأشهر هذه الأسواق عكاظ  ومجنة وذو المجاز ٠ وأولاهن أشهر فضلا وأقوى أثرا في تهذيب العربية ، كانت تقوم هلال ذي القعدة وتستمر إلى العشرين منه ، فتفد إليها زعماء العرب وأمراء القول للمتاجرة والمنافرة ومفاداة الأسرى وأداء الحج. وكان كل شريف إنما يحضر سوق ناحيته إلاعكاظ فإنهم كانوا يتوافدون اليها من كل فج ، لأنها متوجّههم إلى الحج ، ولأنها تقام في الأشهر الحرم ، وذلك ولا ريب سرقوتها وسبب شهرتها . وكان مرجعهم في الفصل بينهم إلى محكمين اتفقوا عليهم وخضعوا لهم فكانوا يحكمون لمن وضح بيانه وفصح لسانه .

آثر مكة وعمل قريش :
كان لموقع مكة أثر بالغ في وحدة اللغة ونهضة العرب ، لأنها كانت في النصف الثاني من القرن السادس محطا للقوافل اليمنية من الجنوب تحمل السلع التواجر من الهند واليمن فيبتاعها المكيون ويصرفونها في أسواق الشام ومصر . وكانت جواد مكة التجارية آمنة لحرمة البيت ومكانة قريش ، فكان تجارهم يخرجون بقوافلهم الموقرة  وعيرهم الدّثر آمنين ، فينزلون الأسواق ويهبطون الآفاق فيستفيدون بسطة في العلم ، وقوة في الفهم ، وثروة في المال ، وغيرة بأمور الحياة. وهي مع ذلك متجرة للعرب ومثابة للناس يأتون إليها من كل فج عميق رجالا وعلى كل ضامر ليقضوا مناسكهم ويشتروا مرافقهم مما تنتجه أو تجلبه ٠ ذلك إلي أن قريشا أهلها وأمراءها كانوا لمكانتهم من الحضارة وزعامتهم في الحج ، ورياستهم في عكاظ ، وايلافهم رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى حوران أشد الناس بالقبائل ارتباطا ، وأكثرهم بالشعوب اختلاطا . كانوا يختلطون بالحبشة في الجنوب ، وبالفرس في الشرق ، وبالروم في الشمال . ثم كانوا على أثارة من العلم بالكتب المنزلة : باليهودية في يثرب وماجاورها من أرض خيبر وتيماء ، وبالنصرانية في الشام ونجران والحيرة ، فتهيأت لهم بذلك الوسائل لثقافة اللسان والفكر ٠ ثم سمعوا المناطق المختلفة ، وتدبروا المعاني الجديدة ، ونقلوا الألفاظ المستحدثة ، واختاروا لغتهم من أفصح اللغات ، فكا نت أعذبها لفظا ، وأبلغها أسلونا ، وأوسعها مادة ،ثم أخذ الشعراء يؤثرونها وينشرونها حق نزل بها القرآن الكريم فأتم لها الذيوع والغلبة ٠



شكرا لتعليقك